فصل: تفسير الآيات رقم (117- 120)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 120‏]‏

‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏‏}‏

ولما كان المنافقون هم المقصودين بالذات بهذه الآيات، وكان أكثرهم أهل أوثان؛ ناسب كل المناسبة قوله معللاً لأن الشرك ضلال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏يدعون‏}‏ وما أنسب التعبير لعباد الأوثان عن العبادة بالدعاء إشارة إلى أن كل معبود لا يدعي في الضرورات فيسمع، فعابده أجهل الجهلة‏.‏ ولما كان كل شيء دونه سبحانه وتعالى، لأنه تحت قهره؛ قال محتقراً لما عبدوه‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ أي وهو الرحمن‏.‏

ولما كانت معبوداتهم أوثاناً متكثرة، وكل كثرة تلزمها الفرقة والحاجة والضعف مع أنهم كانوا يسمون بعضها بأسماء الإناث من اللات والعزى، ويقولون في الكل‏:‏ إنها بنات الله، ويقولون عن كل صنم‏:‏ أنثى بني فلان؛ قال‏:‏ ‏{‏إلا إناثاً‏}‏ أي فجعلوا أنفسهم للإناث عباداً وهم يأنفون من أن يكون لهم لهم أولاداً، وفي التفسير من البخاري‏:‏ إناثاً يعني الموات حجراً أو مدراً- أو ما أشبه ذلك؛ هذا مع أن مادة «أنث» و«وثن» يلزمها في نفسها الكثرة والرخاوة والفرقة، وكل ذلك في غاية البعد عن رتبة الإلهية، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في سورة العنكبوت وأن هذا القصر قلب قصر لاعتقادهم أنها آلهة، ومعنى الحصر‏:‏ ما هي إلا غير آلهة لما لها من النقص ‏{‏وإن يدعون‏}‏ أي يعبدون في الحقيقة ‏{‏إلا شيطاناً‏}‏ أي لأنه هو الآمر لهم بذلك، المزين لهم ‏{‏مريداً‏}‏ أي عاتياً صلباً عاصياً ملازماً للعصيان، مجرداً من كل خير، محترقاً بأفعال الشر، بعيداً من كل أمن، من‏:‏ شاط وشطن؛ ومرد- بفتح عينه وضمها، وعبر بصيغة فعيل التي هي للمبالغة في سياق ذمهم تنبيهاً على أنهم تعبدوا لما لا إلباس في شرارته، لأنه شر كله، بخلاف ما في سورة الصافات، فإن سياقه يقتضي عدم المبالغة- كما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ ثم بين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لعنه الله‏}‏ أي أبعده الملك الأعلى منكل خير فبعد فاحترق‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فقال إصراراً على العداوة بالحسد‏:‏ وعزتك لأجتهدن في إبعاد غيري كما أبعدتني‏!‏ عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقال لأتخذنَّ‏}‏ أي والله لأجتهدن في أن آخذ ‏{‏من عبادك‏}‏ الذين هم تحت قهرك، ولا يخرجون عن مرادك ‏{‏نصيباً مفروضاً *‏}‏ أي جزءاً أنت قدرته لي ‏{‏ولأضلنهم‏}‏ أي عن طريقك السوي بما سلطتني به من الوساوس وتزيين الأباطيل ‏{‏ولأمنينّهم‏}‏ أي كل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث وغيره من طول الأعمال وبلوغ الآمال من الدنيا والآخرة بالرحمة والعفو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة ‏{‏ولآمرنهم‏}‏‏.‏

ولما كان قد علم مما طبعوا عليه من الشهوات والحظوظ التي هيأتهم لطاعته، وكانت طاعته في الفساد عند كل عاقل في غاية الاستبعاد؛ أكد قوله‏:‏ ‏{‏فليبتكن‏}‏ أي يقطعن تقطيعاً كثيراً ‏{‏آذان الأنعام‏}‏ ويشققونها علامة على ما حرموه على أنفسهم ‏{‏ولآمرنهم فليغيرن خلق الله‏}‏ أي الذي له الحكمة الكاملة فلا كفوء له، بأنواع التغيير من تغيير الفطرة الأولى السليمة إلى ما دون ذلك من فقء عين الحامي ونحو ذلك، وهو إشارة إلى ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم بالتقريب للأصنام من السائبة وما معها، المشار إلى إبطاله في أول المائدة بقوله

‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ المصرح به في آخرها بقوله‏:‏ ‏{‏ما جعل الله من بحيرة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 103‏]‏ ويكون التغيير بالوشم والوشر، ويدخل فيه كل ما خالف الدين، فإن الفطرة الأولى داعية إلى خلاف ذلك حتى أدخلوا فيه تشبيه الرجال بالنساء في التخنث وما يتفرع عنه في تشبيه النساء بالرجال في السحق ومانحاً فيه نحوه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فقد خسر من تابعه في ذلك، لأنه صار للشيطان ولياً؛ عطف عليه معمماً قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتخذ‏}‏ أي يتكلف منهم ومن غيرهم تغيير الفطرة الأولى فيأخذ ‏{‏الشيطان ولياً‏}‏ ولما كان ذلك ملزوماً لمحادة الله سبحانه وتعالى، وكان ما هو أدنى من رتبته في غاية الكثرة؛ بعّض ليفهم الاستغراق من باب الأولى فقال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي المستجمع لكل وصف جميل ‏{‏فقد خسر‏}‏ باتخاذه ذلك ولو على أدنى وجوه الشرك ‏{‏خسراناً مبيناً *‏}‏ أي في غاية الظهور والرداءة بما تعطيه صيغة الفعلان، لأنه تولى من لا خير عنده؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يعدهم‏}‏ أي بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل أنه قريب الحصول، وأنه لا درك في تحصيله، وأنه إن لم يحصل كان في فواته ضرر، فيسعون في تحصيله، فيضيع عليهم في ذلك الزمانُ، ويرتكبون فيه ما لا يحل من الأهوال والهوان ‏{‏ويمنيهم‏}‏ أي يزين لهم تعليق الآمال بما لا يتأتى حصوله، ثم بين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحالة أنه ما ‏{‏يعدهم‏}‏ وأظهر في موضع الإضمار تنبيهاً على مزيد النفرة فقال‏:‏ ‏{‏الشيطان‏}‏ أي المحترق البعيد عن الخير ‏{‏إلا غروراًَ *‏}‏ أي تزييناً بالباطل خداعاً ومكراً وتلبيساً، إظهاراً- لما لا حقيقة له أو له حقيقة سيئة- في أبهى الحقائق وأشرفها وألذها إلى النفس وأشهاها إلى الطبع، فإن مادة «غر» و«رغ» تدول على الشرف والحسن ورفاهة العيش، فالغرور إزالة ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 123‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏‏}‏

ولما أثبت لهم ذلك أنتج بلا شك قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء من كل خير ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ أي تتجهمهم وتتقد عليهم بما اتخذوا من خلق منها ولياً ‏{‏ولا يجدون عنها محيصاً *‏}‏ أي موضعاً ما يميلون إليه شيئاً من الميل‏.‏

ولما ذكر ما للكافرين ترهيباً أتبعه ما لغيرهم ترغيباً فقال‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه ‏{‏جنات تجري‏}‏ وقرب وبعض بقوله‏:‏ ‏{‏من تحتها الأنهار‏}‏ أي لرّي أرضها، فحيث ما أجرى منها نهر جرى‏.‏

ولما كان الانزعاج عن مطلق الوطن- ولو لحاجة تعرض- شديداً، فكيف بهذا‏!‏ قال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ ولما كان الخلود يطلق على مجرد المكث الطويل، دل على أنه لا بإلى آخر بقوله‏:‏ ‏{‏أبداً‏}‏ ثم أكد ذلك بأن الواقع يطابقه، وهويطابق الواقع فقال‏:‏ ‏{‏وعد الله حقاً‏}‏ أي يطابقه الواقع، لأنه الملك الأعظم وقد برز وعده بذلك، ومن أحق من الله وعداً، وأخبر به خبراً صاداقً يطابق الواقع ‏{‏ومن أصدق من الله‏}‏ أي المختص بصفات الكمال ‏{‏قيلاً *‏}‏ وأكثر من التأكيد هنا لأنه في مقابلة وعد الشيطان، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد‏.‏

ولما أخبر تعالى عما أعد لهم ولمن أضلهم من العقاب وعما أعد للمؤمنين من الثواب، وكانوا يمنون أنفسهم الأماني الفارغة من أنه لا تبعة عليهم في التلاعب بالدين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويشجعهم على ذلك أهل الكتاب ويدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، لا يؤاخذهم بشيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى أو من شفعوا فيه، ونحو هذه التكاذيب مما يطمعون به من والاهم بأنهم ينجونه، وكان المشركون يقولون‏:‏ ‏{‏نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 35‏]‏، ونحو ذلك- كنا قال العاصي بن وائل لخباب بن الأرت وقد تقاضاه ديناً كان له عليه‏:‏ دعني إلى تلك الدار فأقضيك مما لي فيها، فوالله لا تكون أنت وصاحبك فيها آثر عند الله مني ولا أعظم حظاً، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏ الآيات من آخر مريم، ويقول لهم أهل الكتاب‏:‏ أنتم أهدى سبيلاً، لما كان ذلك قال تعالى راداً على الفريقين‏:‏ ‏{‏ليس‏}‏ أي ما وعده الله وأوعده ‏{‏بأمانيكم‏}‏ أي أيها العرب ‏{‏ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ أي التي يمنيكم جميعاً بها الشيطان‏.‏

ولما اكنت أمانيهم أنهم لا يجازون بأعمالهم الخبيثة، أنتج ذلك لا محالة قوله‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً يجز به‏}‏ أي بالمصائب من الأمراض وغيرها، عاجلاً إن أريد به الخير، وآجلاًَ إن أريد به الشر، وما أحسن إيلاؤها لتمنيه الشيطان المذكورة في قوله ‏{‏يعدهم ويمنيهم‏}‏

‏[‏النساء‏:‏ 120‏]‏ فيكون الكلام وافياً بكشف عوار شياطين الجن ثم الإنس في غرورهم لمن خف معهم مؤيساً لمن قبل منهم، وما أبدع ختامها بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يجد له‏}‏ ولما كان كل أحد قاصراً عن مولاه، عبر بقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي حاز جميع العظمة ‏{‏ولياً‏}‏ أي قريباً يفعل معه ما يفعل القريب ‏{‏ولا نصيراً *‏}‏ أي ينصره في وقت ما‏!‏ وما أشد التئامها بختام أول الآيات المحذرة منهم ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 44‏]‏ إلى قوله ‏{‏وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 45‏]‏ إشارة إلى أن مقصود المنافقين من مشايعة أهل الكتاب ومتابعتهم إنما هو الولاية والنصرة، وأنهم قد ضيعوا منيتهم فاستنصروا بمن لا نصرة له، وتركوا من ليست النصرة إلا له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 125‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏‏}‏

ولما أبدى جزاء المسيء تحذيراً، أولاه أجر المحسن تبشيراً فقال‏:‏ ‏{‏ومن يعمل‏}‏ وخفف تعالى عن عباده بقوله‏:‏ ‏{‏من الصالحات‏}‏ ولما عمم بذكر ‏(‏من‏)‏ صرح بما اقتضته في قوله‏:‏ ‏{‏من ذكر وأنثى‏}‏ وقيد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏مؤمن‏}‏ ليكون بناؤه الأعمال على أساس الإيمان ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو الرتبة، وبنى فعل الدخول للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وأبي جعفر وأبي بكر عن عاصم وروح عن يعقوب، وللفاعل في قراءة غيرهم، لأن المقصود نفس الفعل، لا كونه من فاعل معين؛ وإن كانت قراءة الأولين أكثر فائدة ‏{‏يدخلون‏}‏ أي يدخلهم الله ‏{‏الجنة‏}‏ أي الموصوفة ‏{‏ولا يظلمون‏}‏ وبنى الفعل للمجهول، لأن المقصود الخلاص منه لا بقيد فاعل معين ‏{‏نقيراً *‏}‏ أي لا يظلم الله المطيع منهم بنقص شيء ما، ولا العاصي بزيادة شيء ما، والنقير‏:‏ ما في ظهر النواة من تلك الوقبة الصغيرة جداً، كني بها عن العدم، وهذا على ما يتعارفه الناس وإلا فالله تعالى له أن يفعل ما يشاء، فإن مِلكه ومُلكه عام، لا يتصور منه ظلم كيف ما فعل‏.‏

ولما كشف سبحانه زورهم وبيَّن فجورهم، أنكر أن يكون أحد أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم الذي يزعمون أنه كان على دينهم زعماًَ تقدم كشف عواره وهتك أستاره في آل عمران، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فمن أحسن دائناً ومجازياً وحاكماً منه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ومن أحسن ديناً‏}‏ أو يكون التقدير‏:‏ لأنهم أحسنوا في دينهم ومن أحسن ديناً منهم‏!‏ لكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وتعليماً لما يفعل يفعل المؤمن وحثاً عليه فقال‏:‏ ‏{‏ممن أسلم‏}‏ أي أعطى‏.‏

ولما كان المراد الإخلاص الذي هو أشرف الأشياء، عبر عنه بالوجه الذي هو أشرف الأعضاء فقال‏:‏ ‏{‏وجهه‏}‏ أي قياده، أي الجهة التي يتوجه إليها بوجهه أي قصده كله الملازم للإسلام نفسه كلها ‏{‏لله‏}‏ فلا حركة له سكنة إلا فيما يرضاه، لكونه الواحد الذي لا مثل له، فهو حصر بغير صيغة الحصر، فأفاد فساد طريق من لفت وجهه نحو سواه باستعانة أو غيرها ولا سيما المعتزلة الذين يرون الطاعة من أنفسهم، ويرون أنها موجبة لثوابهم، والمعصية كذلك وأنها موجبة لعقابهم، في الحقيقة لا يرجون إلا أنفسهم، ولا يخافون غيرها؛ وأهل السنة فوّضوا التدبير والتكوين والخلق إلى الحق، فهم المسلمون‏.‏

ولما عبر تعالى عن كمال الاعتقاد بالماضي، شرط فيه الدوام والأعمال الظاهرة بقوله‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏محسن‏}‏ أي مؤمن مراقب، لا غفلة عنده أصلاً، بل الإحسان صفة له راسخة، لأنه يعبد الله كأنه يراه، فقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذم الكامل لغيره‏.‏

ولما كان هذا ينتظم مَنَ كان على دين أي نبي كان قبل نسخه، قيده بقوله‏:‏ ‏{‏واتبع‏}‏ أي بجهد منه ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏ الذي اشتهر عند جميع الطوائف أنه ما دعا إلا إلى الله سبحانه وتعالى وحده، وتبرأ مما سواه من فلك وكوكب وصنم وطبيعة وغيرها حال كون ذلك المتبع ‏{‏حنيفاً‏}‏ أي ليناً سهلاً ميّالاً مع الدليل، والملة‏:‏ ما دعت إليه الفطرة الأولى بمساعدة العقل السليم من كمال الإسلام بالتوحيد‏.‏

ولما كان التقدير ترغيباً في هذا الاتباع‏:‏ فقد جعل الله سبحانه وتعالى ملة إبراهيم أحسن الملل، وخلقه يوم خلقه حنيفاً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏واتخذ الله‏}‏ أي الملك الأعظم أخذ من معين بذلك مجتهد فيه ‏{‏إبراهيم خليلاً *‏}‏ لكونه كان حنيفاً، وذلك عبارة عن اختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله من ترديد الرسل بالوحي بينه وبينه، وإجابة الدعوة، وإظهار الخوارق عليه وعلى آله، والنصرة على الأعداء وغير ذلك من الألطاف، وأظهر اسمه في موضع الإضمار تصريحاً بالمقصود احتراساً من الإبهام وإعلاءً لقدره تنويهاً بذكره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 127‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏

ولما أخبر بمن يحبه ومن يبغضه وبما يرضيه وما يغضبه، وكان ربما توهم عدم القدرة على أخذه لغير ما أخذ، وجعله لغير ما جعل، أو تعنت بذلك متعنت فظن أن في الكلام دخلاً بنوع احتياج إلى المحالة أو غيرها قال‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي والحال أن للمختص بالوحدانية- فلا كفوء له ‏{‏ما في السماوات‏}‏‏.‏

ولما كان السياق للمنافقين والمشركين أكد فقال‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ من إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن غيره إشارة إلى أنه التام المُلك العظيم المِلك، فلا يعطي إلا من تابع أولياءه وجانب أعداءه، ولا يختار إلا من علمه خياراً وهو مع ذلك قادر على ما يريد من إقرار وتبديل، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الملك الذي له الكمال كله ‏{‏بكل شيء‏}‏ أي منهما ومن غيرهما ‏{‏محيطاً *‏}‏ علماً وقدرة، فمهما راد كان في وعده ووعيده للمطيع والعاصي، لا يخفى عليه أحد منهم، ولا يعجزه شيء‏.‏

ولما كان سبحانه وتعالى قد رتب هذا الكتاب على أنه يذكر أحكاماً من الأصول والفروع، ثم يفصلها بوعد ووعيد وترغيب وترهيب، وينظمها بدلائل كبريائه وجلاله وعظيم بره وكماله، ثم يعود إلى بيان الأحكام على أبدع نظام لأن إلقاء المراد في ذلك القالب أقرب إلى القبول، والنظم كذلك أجدر بالتأثير في القلوب، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا تنقاد له النفوس إلا إذا كان مقروناً ببشارة ونذارة، وذلك لا يؤثر إلا عند القطع بغاية الكمال لمن صدر عنه ذلك المقال، ولا ينتقل مع ذلك من أسلوب إلى آخر إلا على غاية ما يكون من المناسبة بين آخر كل نوع وأول ما بعده بكمال التعلق لفظاً ومعنى، وفعل سبحانه وتعالى في هذه السورة في أحكام العدل الذي بدأ السورة به في المواصلة التي مبناها النكاح والإرث وغير ذلك مما اتصل به- كما بين- إلى أن ختم هنا بالإسلام المثمر لقبول ذلك كله وعظمة الملك الموجبة لتمام الإسلام، وقامت البراهين وسطعت الحجج، وكان من أعظم مقاصد السورة العدل في الضعفاء من الأيتام وغيرهم في الميراث وغيره، وكان توريث النساء والأطفال- ذكوراً كانوا أو إناثاً- مما أبته نفوسهم، وأشربت بغضه قلوبهم، وكان التفريق في إثبات ما هذا سبيله أنجع، وإلقاؤه شيئاً فشيئاً في قوالب البلاغة أنفع؛ وصل بذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستفتونك‏}‏ في جملة حالية من اسم الجلالة التي قبلها، أي له ما ذكر فلا مساغ للاعتراض عليه والحال أنهم يسألونك طلباً لأن تتفتى عليهم بالجواب في بعض ما أعطى من ملكه لبعض مخلوقاته ‏{‏في النساء‏}‏ طمعاً في الاستئثار عليهم بالمال وغيره محتجين بأنه لا ينبغي أن يكون المال إلا لمن يحمي الذمار والحال أنهم قد عبدوا من دونه إناثاً، وجعلوا لهم مما خولهم فيه من الرزق الذي ملكهم له بضعف من الحرث والأنعام نصيباً، فلا تعجب من حال من كرر الاستفتاء- الذي لا يكون في العرف غالباً إلا فيما فيه اعتراض- في إناث أحياء وأطفال ذكور وأعطاهم المِلك التام المُلك العظيم المِلك بعض ما يريد، ولم يعترض على نفسه حيث أعطى إناثاً لا حياة لها ولا منفعة مما في يده، وملكه في الحقيقة لغيره، ولم يأذن فيه المالك ما لا ينتفع به المعطي‏.‏

ولما كان المقام بكثرة الاستفتاء محتاجاً إلى زيادة الاعتناء قال‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ آمراً معبراً بالاسم الأعظم منبهاً على استحضار ما ذكر أول السورة ‏{‏يفتيكم‏}‏ أي يبين لكم حكمه ‏{‏فيهن‏}‏ أي الآن لأن تقوموا لهن بالقسط ‏{‏وما‏}‏ أي مع ما ‏{‏يتلى عليكم‏}‏ أي تجدد فيكم تلاوته إلى آخر الدهر سيفاً قاطعاً وحكماً ماضياً جامعاً ‏{‏في الكتاب‏}‏ أي فيما سبق أول السورة في قوله‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏، وغير ذلك ‏{‏في يتامى النساء‏}‏ أي في شأن التيامى من هذا الصنف ‏{‏اللاّتي لا تؤتونهن‏}‏ أي بسبب التوقف في ذلك وتكرير الاستفتاء عنه ‏{‏ما كتب لهن‏}‏ أي ما فرض من الميراث وسائر الحقوق فرضاً وهو في غاية اللزوم ‏{‏وترغبون أن‏}‏ أي في أن أو عن أن ‏{‏تنكحوهن‏}‏ لجمالهن أو لدمامتهن ‏{‏و‏}‏ يفتيكم في ‏{‏المستضعفين‏}‏ أي الموجود ضعفهم والمطلوب إضعافهم، يمنعهم حقوقهم ‏{‏من الولدان‏}‏‏.‏

ولما كان التقدير؛ في أن تقوموا لهم بالقسط، أي في ميراثهم وسائر حقوقهم ولا تحقروهم لصغرهم؛ عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا‏}‏ أي تفعلوا فيه من القوة والمبادرة فعل القائم المنشط ‏{‏لليتامى‏}‏ من الذكور والإناث ‏{‏بالقسط‏}‏ أي بالعدل من الميراث وغيره‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فما تفعلوا في ذلك من شر فإن الله كان به عليماً وعليكم قديراً؛ عطف عليه قوله ترغيباً‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير‏}‏ أي في ذلك أو في غيره ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏كان به عليماً *‏}‏ أي فهو جدير- وهو أكرم الأكرمين وأحكم الحاكمين- بأن يعطي فاعله على حسب كرمه وعلو قدره، فطيبوا نفساً وتقروا عيناً؛ روى البخاري في الشركة والنكاح ومسلم في آخر الكتاب وأبو داود والنسائي في النكاح «عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى‏}‏ إلى ‏{‏رباع‏}‏ قالت‏:‏ يا ابن أختي‏!‏ هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن؛ قال عروة‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل ‏(‏ويستفتونك- إلى- وترغبون أن تنكحوهن‏)‏»

والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب‏:‏ الآية الأولى التي قال فيها‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ وقول الله تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ هي رغبة أحدكم يتيمته- وقال مسلم‏:‏ عن يتيمته- التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، زاد مسلم‏:‏ إذا كن قليلات المال والجمال، وقال البخاري في النكاح‏:‏ فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق؛ وفي البخاري ومسلم في التفسير عن عروة أيضاً ‏{‏يستفتونك في النساء‏}‏ الآية قالت‏:‏ «هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته- وقال مسلم‏:‏ لعلها أن تكون قد شركته، في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية؛ وفي رواية مسلم‏:‏ نزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينحكها لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها فقال‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ يقول‏:‏ ما حللت لكم، ودع هذه التي تضر بها» وفي رواية له وللبخاري في النكاح «فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله- وقال البخاري‏:‏ فيدخل عليه في ماله- فيعضلها ولا يتزوجها ولا يزوجها، زاد البخاري‏:‏ فنهاهم الله سبحانه وتعالى» عن ذلك، وحاصل ذلك ما نقله الأصبهاني أنه كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فإذا ماتت ورثها‏.‏

وما أنسب ذكر هذا الحكم الذي كثرت فيه المراجع على وجه يؤذن بعدم إذعان بعض النفوس له عقب آية الإسلام الذي معناه الانقياد والخضوع والإحسان الذي صار في العرف أكثر استعماله للاعطاء والتألف والعطف لا سيما للضعيف، وذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أنه أتم ما ابتلاه الله تعالى به من الكلمات ووفي بها من غير مراجعة ولا تلعثم، وأنه كان حنيفاً ميالاً مع الدليل، تعنيفاً لمن قام عليه دليل العقل وأتاه صريح النقل وهو يراجع‏!‏ وإذا تأملت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏ مع قوله فيما قبل ‏{‏وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 9‏]‏ لاحت لك أيضاً مناسبة بديعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 130‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏‏}‏

ولما صاروا يعطفون اليتامى أموالهم، وصاروا يتزوجون ذوات الأموال منهن ويضاجرون بعضهن؛ عقب ذلك تعالى بالإفتاء في أحوال المشاققة بين الأزواج فقال‏:‏ ‏{‏وإن امرأة‏}‏ أي واحدة أو على ضرائر‏.‏

ولما كان ظن المكروه مخوفاً قال‏:‏ ‏{‏خافت‏}‏ أي توقعت وظنت بما يظهر لها من القرائن ‏{‏من بعلها نشوزاً‏}‏ أي ترفعاً بما ترى من استهانته لها بمنع حقوقها أو إساءة صحبتها ‏{‏أو إعراضاً‏}‏ عنها بقلبه بأن لا ترى من محادثته ومؤانسته ومجامعته ما كانت ترى قبل ذلك، تخشى أن يجر إلى الفراق وإن كان متكلفاً لملاطفتها بقوله وفعله ‏{‏فلا جناح‏}‏ أي حرج وميل ‏{‏عليهما أن يصلحا‏}‏ أي يوقع الزوجان ‏{‏بينهما‏}‏ تصالحاً ومصالحة، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة الكوفيين بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام التقدير‏:‏ إصلاحاً، لكنه لما كان المأمور به يحصل بأقل ما يقع عليه اسم الصلح بنى المصدر على غير هذين الفعلين فقال مجرداً له‏:‏ ‏{‏صلحاً‏}‏ بأن تلين هي بترك بعض المهر أو بعض القسم أو نحو ذلك، وأن يلين لها هو بإحسان العشرة في مقابلة ذلك‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ولا حناح عليهما أن يتفارقا على وجه العدل، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والصلح‏}‏ أي بترك كل منهما حقه أو بعض حقه ‏{‏خير‏}‏ أي المفارقة التي أشارت إليها الجملة المطوية لأن الصلح مبناه الإحسان الكامل بالرضى من الجانبين، والمفارقة مبناها العدل الذي يلزمه في الأغلب غيظ أحدهما وإن كانت مشاركة للصلح في الخير، لكنها مفضولة، وتخصيصُ المفارقة بالطي لأن مبنى السورة على المواصلة‏.‏

ولما كان منشأ التشاجر المانع من الصلح شكاسة في الطباع، صوَّر سبحانه وتعالى ذلك تنفيراً عنه، فقال اعتراضاً بين هذه الجمل للحث على الجود بانياً الفعل للمجهول إشارة إلى أن هذا المُحِضر لا يرضى أحد نسبته إليه‏:‏ ‏{‏وأحضرت الأنفس‏}‏ أي الناظرة إلى نفاستها عجباً ‏{‏الشح‏}‏ أي الحرص وسوء الخلق وقلة الخير والنكد والبخل بالموجود، وكله يرجع إلى سوء الخلق والطبع الرديء واعوجاج الفطرة الأولى الذي كني عنه بالإحضار الملازم الذي لا انفكاك له إلا بجهاد كبير يناله به الأجر الكثير‏.‏

ولما كان هذا خلقاً رديئاً لم يذكر فاعله، والمعنى‏:‏ أحضرها إياه مُحضر‏.‏ فصار ملازماً لها، لا تنفك عنه إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى في قهرها عليه بتذكير ما عنده سبحانه وتعالى من حسن الجزاء، ولما كان التقدير‏:‏ فإن شححتم فإنه أعلم بها في الشح من موجبات الذم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا‏}‏ أي توقعوا الإحسان بالإقامة على نكاحكم وما ندبتم إليه من حسن العشرة وإن كنتم كارهين ‏{‏وتتقوا‏}‏ أي توقعوا التقوى بمجانبة كل ما يؤذي نوع أذى إشارة إلى أن الشحيح لا محسن ولا متق ‏{‏فإن الله‏}‏ أي وهو الجامع لصفات الكمال ‏{‏كان‏}‏ أزلاً وأبداً ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي في كل شح وإحسان ‏{‏خبيراً *‏}‏ أي بالغ العلم به وأنتم تعلمون أنه أكرم الأكرمين، فهو مجازيكم عليه أحسن جزاء‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الوقوف على الحق فضلاً عن الإحسان- وإن كانت المرأة واحدة- متعسر، أتبعه أن ذلك عند الجمع أعسر، فقال تعالى معبراً بأداة التأكيد‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا‏}‏ أي توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة ‏{‏أن تعدلوا‏}‏ أي من غير حيف أصلاً ‏{‏بين النساء‏}‏ في جميع ما يجب لكل واحدة منهن عليكم من الحقوق ‏{‏ولو حرصتم‏}‏ أي على فعل ذلك، وهذا مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ كالمختم للاختصار على واحدة‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى بأن لا يخلو نكاح العدد عن ميل، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فلا‏}‏ أي فإن كان لا بد لكم من العدد، أو فإن وقع الميل والزوجة واحدة فلا ‏{‏تميلوا‏}‏ ولما كان مطلق الميل غير مقدور على تركه فلم يكلف به، بين المراد بقوله‏:‏ ‏{‏كل الميل‏}‏ ثم سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فتذروها‏}‏ أي المرأة ‏{‏كالمعلقة‏}‏ أي بين النكاح والعزوبة والزواج والانفراد‏.‏

ولما كان الميل الكثير مقدوراً على تركه، فكان التقدير‏:‏ فإن ملتم كل الميل مع إبقاء العصمة فإن الله كان منتقماً حسيباً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن تصلحوا وتتقوا‏}‏ أي بأن توجدوا الإصلاح بالعدل في القسم والتقوى في ترك الجور على تجدد الأوقات ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏كان غفوراً رحيماً *‏}‏ أي محّاء للذنوب بليغ الإكرام فهو جدير بأن يغفر لكم مطلق الميل، ويسبغ عليكم ملابس الإنعام‏.‏

ولما كان من الإصلاح المعاشرة بالمعروف، ذكر قسيمه فقال‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا‏}‏ أي يفترق كل من الزوجين من صاحبه ‏{‏يغن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏كلاًّ‏}‏ أي منهما، أي يجعله غنياً هذه برجل وهذا بامرأة أو بغير ذلك من لطفه، وبين منشأ هذا الغني فقال‏:‏ ‏{‏من سعته‏}‏ أي من شمول قدرته وغير ذلك من كل صفة كمال، ولمزيد الاعتناء بتقرير هذه المعاني في النفوس لإحضارها الشح، كرر اسمه الأعظم الجامع فقال‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً ‏{‏واسعاً‏}‏ أي محيطاً بكل شيء ‏{‏حكيماً *‏}‏ أي يضع الأشياء في أقوم محالها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 134‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏

ولما كان مبنى هذه السورة على التعاطف والتراحم والتواصل، لم يذكر فيها الطلاق إلا على وجه الإيماء في هذه الآية على وجه البيان لرأفته وسعة رحمته وعموم تربيته، وفي ذلك معنى الوصلة والعطف، قال ابن الزبير‏:‏ ولكثرة ما يعرض من رعى حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة- ويدق ذلك ويغمض- لذلك ما تكرر كثيراً في هذه السورة الأمرُ بالاتقاء، وبه افتتحت ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 131‏]‏‏.‏

ولما ذكر تعالى آية التفرق وختمها بصفتي السعة والحكمة دل على الأول ترغيباً في سؤاله‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ‏{‏ما في السماوات‏}‏ ولما كان في السياق بيان ضعف النفوس وجبلها على النقائص، فكانت محتاجة إلى تقوية الكلام المخرج لها عما ألفت من الباطل قال‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ وعلى الثانية بالوصية بالتقوى لأنه كرر الحث على التقوى في هذه الجمل في سياق الشرط بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا وتتقوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ ‏{‏وإن تصلحو وتتقوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 129‏]‏ فأخبر تعالى بعد اللطف بذلك السياق أن وصيته بها مؤكدة، لم تزل قديماً وحديثاً، لأن العلم بالمشاركة في الأمر يكون أدعى للقبول، وأهون على النفس، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد وصينا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة‏.‏

ولما كان الاشتراك في الأحكام موجباً للرغبة فيها والتخفيف لثقلها، وكانت الوصية للعالم أجدر بالقبول قال‏:‏ ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏ أي التوراة والإنجيل وغيرهما وبنى الفعل للمجهول لأن القصد بيان كونهم أهل علم ليرغب فيما أوصوا به، ودلالة على أن العلم في نفسه مهيئ للقبول، ولإفادة أن وصيتهم أعم من أن تكون في الكتاب، أو على لسان الرسول من غير كتاب، ولما كان إيتاؤهم الكتاب غير مستغرق للماضي وكذا الإيصاء قال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ أي من بني إسرائيل وغيرهم ‏{‏وإياكم‏}‏ أي ووصيانكم مثل ما وصيناهم؛ ولما كانت التوصية بمعنى القول فسرها بقوله‏:‏ ‏{‏أن اتقوا الله‏}‏ أي الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن تتقوا فهو حظكم وسعادتكم في الدارين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا‏}‏ أي بترك التقوى ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له الكمال المطلق ‏{‏ما في السماوات‏}‏ ولما كان السياق لفرض الكفر حسن التأكيد في قوله‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ منكم ومن غيركم من حيوان وجماد أجساداً وأروحاً وأحوالاً‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ لا يخرج شيء عن ملكه ولا إرادته، ولا يلحقه ضرر بكفركم، ولم تضروا إن فعلتم إلا أنفسكم، لأنه غني عنكم، لا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات؛ أكده بقوله دالاً على غناه واستحقاقه للمحامد‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة كلها ‏{‏غنياً‏}‏ أي عن كل شيء الغنى المطلق لذاته ‏{‏حميداً *‏}‏ أي محموداً بكل لسان قالي وحالي، كفرتم أو شكرتم، فكان ذلك غاية في بيان حكمته‏.‏

ولما كان الملك قد لا يمنع الاعتراض على المالك بين أن ذلك إنما هو في الملك الناقص وأنه ملكه تام‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة ‏{‏ما في السماوات‏}‏ وأكد لمثل ما مضى فقال‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ أي هو قائم بمصالح ذلك كله، يستقل بجميع أمره، لا معترض عليه، بل هما وكل من فيهما مظهر العجز عن أمره، معلق مقاليد نفسه وأحواله إليه طوعاً أو كرهاً، فهو وكيل على كل ذلك فاعل به ما يفعل الوكيل من الأخذ والقبض والبسط، ولمثل ذلك كرر الاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏وكفى بالله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ‏{‏وكيلاً *‏}‏ أي قائماً بالمصالح قاهراً متفرداً بجميع الأمور، قادراً على جميع المقدور، وقد بان- كما ترى- أن جملة «لله» المكررة ثلاث مرات ذكرت كل مرة دليلاً على شيء غير الذي قبله وكررت، لأن الدليل الواحد إذا كان دالاً على مدلولات كثيرة يحسن أن يستدل به على كل واحد منها‏.‏ وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرة واحدة، لأن عند إعادته يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل؛ وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أن هذا الدليل دال على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر، فيجتهد السامع في التفكر لإظهار الأسرار والاستدلال عل صفات الكمال لأن الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله تعالى إلى الاستغراق في معرفته سبحانه، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، فكان في غاية الحسن والكمال‏.‏

ولما تقرر بهذا شمول علم من هذا من شأنه وتمام قدرته أنتج قوله مهدداً مخوفاً مرهباً‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ وصرح بالعموم إشارة إلى عموم الإرسال بقوله‏:‏ ‏{‏أيها الناس‏}‏ أي المتفرعون من تلك النفس الواحدة كافة لغناه عنكم وقدرته على ما يريد منكم ‏{‏ويأت بآخرين‏}‏ أي من غيركم يوالونه ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الواحد الذي لا شريك له أزلاً وأبداً ‏{‏على ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من الإيجاد والإعدام ‏{‏قديراً *‏}‏ أي بالغ القدرة، وهذا غاية البيان لغناه وكونه حميداً وقاهراً وشديداً، وإذا تأملت ختام قوله تعالى في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر هذه السورة ‏{‏سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ زاد ذلك هذا السر- وهو كونه لا اعتراض عليه- وضوحاً‏.‏

ولما كان في هذا تهديد بليغ وتعريف بسعة الملك وكمال التصرف، وكان مدار أحوال المتشاححين في الإرث وحقوق الأزواج وغيرها الأمرَ الدنيوي، وكان سبحانه وتعالى قد بين فيما مضى أن مبنى أحوال المنافقين على طلب العرض الفاني خصوصاً قصة طعمة بن أبيرق الراضي لنفسه بالفضيحة في نيل شيء تافه؛ قال تعالى تفييلاً لآرائهم وتخسيساً لهممهم حيث نزلوا إلى الأدنى مع القوة على طلب الأعلى مع طلب الأدنى أيضاً منه تعالى، فلا يفوتهم شيء من معوّلهم مع إحراز الأنفس‏:‏ ‏{‏ما كان يريد ثواب الدنيا‏}‏ لقصور نظره على المحسوس الحاضر مع خسته كالبهائم ‏{‏فعند‏}‏ أي فليقبل إلى الله فإنه عند ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الكمال المطلق ‏{‏ثواب الدنيا‏}‏ الخسيسة الفانية ‏{‏والآخرة‏}‏ أي النفسية الباقية فليطلبها منه، فإنه يعطي من أراد ما شاء، ومن علت همته عن ذلك فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه فلم يطلب إلا الباقي جمع سبحانه وتعالى له بينهما، كمن يجاهد الله خالصاً، فإنه يجمع له بين الأجر والمغنم، وما أشد التئامها مع ذلك بما قبلها، لأن من كان تام القدرة واسع الملك كان كذلك‏.‏

ولما كان الناشيء عن الإرادة إما قولاً أو فعلاً، وكان الفعل قد يكون قلبياً قال‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي المختص بجميع صفات الكمال ‏{‏سميعاً‏}‏ أي بالغ السمع لكل قول وإن خفي، نفسياً كان أو لسانياً ‏{‏بصيراً *‏}‏ أي بالغ البصر لكل ما يمكن أن يبصر من الأفعال، والعلم بكل ما يبصر وما لا يبصر منها ومن غيرها فيكون من البصر ومن البصيرة، فليراقبه العبد قولاً وفعلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏135- 136‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏‏}‏

ولما كان ذلك من أحسن المواعظ لقوم طعمة الذين اعتصبوا له، التفت إليهم مستعطفاً بصيغة الإيمان، جائياً بصيغة الأمر على وجه يعم غيرهم، قائلاً ما هو كالنتيجة لما مضى من الأمر بالقسط من أول السورة إلى هنا على وجه أكده وحث عليه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم ‏{‏كونوا قوَّامين‏}‏ أي قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه‏.‏

ولما كان أعظم مباني هذه السورة العدل قدمه فقال‏:‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ بخلاف ما يأتي في المائدة فإن النظر فيها إلى الوفاء الذي إنما يكون بالنظر إلى الموفى له ‏{‏شهداء‏}‏ أي حاضرين متيقظين حضور المحاسب لكل شيء أردتم الدخول فيه ‏{‏لله‏}‏ أي لوجه الذي كل شيء بيده لا لشيء غيره ‏{‏ولو‏}‏ كان ذلك القسط ‏{‏على أنفسكم‏}‏ أي فإني لا أزيدكم بذلك إلا عزاء، وإلا تفعلوا ذلك قهرتكم على الشهادة على أنفسكم على رؤوس الأشهاد، ففضحتم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون من جميع العباد‏.‏

ولما كان ذكر أعز ما عند الإنسان أتبعه ما يليه وبدأ منه بمن جمع إلى ذلك الهيبة فقال‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ أي أو كان ذلك القسط على ‏{‏الوالدين‏}‏ وأتبعه ما يعمهما وغيرها فقال‏:‏ ‏{‏والأقربين‏}‏ أي من الأولاد وغيرهم، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن يكن‏}‏ أي المشهود له أو عليه ‏{‏غنياً‏}‏ أي ترون الشهادة له بشيء باطل دافعة ضراً منه للغير من المشهود عليه أو غيره، أو مانعة فساداً أكبر منها، أو عليه بما لم يكن صلاحاً طمعاً في نفع الفقير بما لا يضره ونحو ذلك ‏{‏أو فقيراً‏}‏ فيخيل إليكم أن الشهادة له بما ليس له نفعه رحمة له أو بما ليس عليه لمن هو أقوى منه تسكن فتنة ‏{‏فالله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام ‏{‏أولى بهما‏}‏ أي بنوعي الغني والفقير المندرج فيهما هذان المشهود بسببهما منكم، فهو المرجو لجلب النفع ودفع الضر بغير ما ظننتموه، فالضمير من الاستخدام، ولو عاد للمذكور لوحد الضمير لأن المحدث عنه واحد مبهم‏.‏

ولما كان هذا، تسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فلا تتبعوا‏}‏ أي تتكلفوا تبع ‏{‏الهوى‏}‏ وتنهمكوا فيه انهماك المجتهد في المحب له ‏{‏أن‏}‏ أي إرادة أن ‏{‏تعدلوا‏}‏ فقد بان لكم أنه لا عدل في ذلك‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن تتبعوه لذلك أو لغيره فإن الله كان عليكم قديراً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن تلوا‏}‏ أي ألسنتكم لتحرفوا الشهادة نوعاً من التحريف أو تديروا ألسنتكم أي تنطقوا بالشهادة باطلاً، وقرأ ابن عامر وحمزة بضم اللام- من الولاية أي تؤدوا الشهادة على وجه من العدل، أو الليّ ‏{‏أو تعرضوا‏}‏ أي عنها وهي حق فلا تؤدوها لأمر ما ‏{‏فإن الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏كان‏}‏ أي لم يزل ولا يزال ‏{‏بما تعملون خبيراً *‏}‏ أي بالغ العلم باطناً وظاهراً، فهو يجازيكم على ذلك بما تستحقونه، فاحذروه إن خنتم، وارجوه إن وفيتم، وذلك بعد ما مضى من تأديبهم على وجه الإشارة والإيماء من غير أمر، وما أنسبها لختام التي قبلها وأشد التئام الختامين‏:‏ ختام هذه بصفة الخبر وتلك بصفتي السمع والبصر‏.‏

ولما أمر بالعدل على هذا الوجه أمر بالحامل على ذلك، وهو الإيمان بالشارع والمبلغ والكتاب الناهج لشرائعه المبين لسرائره الذي افتتح القصة بحقيته وبيان فائدته فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين ءامنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان؛ ولما ناداهم بوصف الإيمان أمرهم بما لا يحصل إلا به فقال مفصلاً له‏:‏ ‏{‏ءامنوا بالله‏}‏ أي لأنه أهل لذلك لذاته المستجمع لجميع صفات الكمال كلها‏.‏

ولما كان الإيمان بالله لا يصح إلا بالإيمان بالوسائط، وكان أقرب الوسائط إلى الإنسان الرسول قال‏:‏ ‏{‏ورسوله‏}‏ أي لأنه المبلغ عنه سواء كان من الملك أو البشر ‏{‏والكتاب الذي نزل‏}‏ أي مفرقاً بحسب المصالح تدريجاً تثبيتاً وتفهيماً ‏{‏على رسوله‏}‏ أي لأنه المفصل لشريعتكم المتكفل بما تحتاجون إليه من الأحكام والمواعظ وجميع ما يصلحكم، وهو القرآن الواصل إليكم بواسطة أشرف الخلق ‏{‏والكتاب الذي أنزل‏}‏ أي أوجد إنزاله ومضى؛ ولما لم يكن إنزاله مستغرقاً للزمان الماضي بين المراد بقوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ من الإنجيل والزبور والتوراة وغيرها لأن رسولكم بلغكم ذلك فلا يحصل الإيمان إلا بتصديقه في كل ما يقوله‏.‏

ولما كان المؤمن الذي الخطاب معه عالماً بأن التنزيل والإنزال لا يكون إلا من الله بنياً للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وابن عامر للعلم بالفاعل، وصرحت قراءة الباقين به‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن آمن بذلك فقد اهتدى وآمن قطعاً بالملائكة واليوم الآخر وغير ذلك من كل ما دعا إليه الكتاب والرسول، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يكفر‏}‏ أي يوجد الكفر ويجدده وقتاً من الأوقات ‏{‏بالله وملائكته وكتبه‏}‏ أي التي أنزلها على أنبيائه بواسطة ملائكته أو بغير واسطة ‏{‏ورسله‏}‏ أي من الملائكة والبشر، فكان الإيمان بالترقي للاحتياج إليه، وكان الكفر بالتدلي للاجتراء عليه‏.‏

ولما كان الإيمان بالبعث- وإن كان أظهر شيء- مما لا تستقل به العقول فلا تصل إليه إلا بالرسل، ذكره بعدهم فقال‏:‏ ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ أي الذي أخبرت به رسله، وقضت به العقول الصحيحة وإن كانت لا تستقل بإدراكه قبل تنبيه الرسل لها عليه، وهو روح الوجود وسره وقوامه وعماده، فيه تكشف الحقائق وتجمع الخلائق، ويظهر شمول العلم وتمام القدرة ويبسط ظل العدل وتجتني ثمرات الفضل ‏{‏فقد ضل‏}‏ وأبلغ في التأكيد لكثرة المكذبين فقال‏:‏ ‏{‏ضلالاً بعيداً *‏}‏ أي لا حيلة في رجوعه معه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 141‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏‏}‏

ولما كان المتمادي بعد نزول هذا الهدي موجداً للكفر مجدداً له، نبه على إغراقه في البعد بغضبه سبحانه وتعالى لتماديه معلماً أن الثبات على الكفر عظيم جداً، وصوّره بأقبح صورة، وفي ذلك ألطف استعطاف إلى النزوع عن الخلاف فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين ءامنوا‏}‏ أي بما كانوا مهيئين له من الإيمان بالفطرة الأولى ‏{‏ثم كفروا‏}‏ أي أوقعوا الكفر فعوَّجوا ما أقامه الله من فطرهم ‏{‏ثم ءامنوا‏}‏ أي حقيقة أو بالقوة بعد مجيء الرسول بما هيأهم له بإظهار الأدلة وإقامة الحجج ‏{‏ثم كفروا‏}‏ أي بذلك الرسول أو برسول آخر بتجديد الكفر أو التمادي فيه ‏{‏ثم ازدادوا‏}‏ أي بإصرارهم على الكفر إلى الموت ‏{‏كفراً لم يكن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏ليغفر لهم‏}‏ أي ما داموا على هذا الحال لأنه لا يغفر أن يشرك به ‏{‏ولا ليهديهم سبيلاً *‏}‏ أي من السبل الموصلة إلى المقصود‏.‏

ولما كانت جميع صور الآية منطبقة على النفاق، بعضها حقيقة وبعضها مجازاً، قال جواباً لمن كأنه سأل عن جزائهم متهكماً بهم‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين‏}‏ فأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ‏{‏بأن لهم عذاباً أليماً *‏}‏ ثم وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يتخذون الكافرين‏}‏ أي المجاهرين بالكفر ‏{‏أولياء‏}‏ أي يتعززون بهم تنفيراً من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق، وبياناً لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله‏:‏ ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ أي الغريقين في الإيمان، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أيبتغون‏}‏ أي المنافقون يتطلبون، تطلباً عظيماً ‏{‏عندهم‏}‏ أي الكافرين ‏{‏العزة‏}‏ فكأنه قال‏:‏ طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب، لأنه لا شيء من العزة عندهم‏.‏

ولما أنكر عليهم هذا الابتغاء علله بقوله‏:‏ ‏{‏فإن العزة لله‏}‏ أي الذي لا كفوء له ‏{‏جميعاً *‏}‏ أي وهم أعداء الله فإنما يترقب لهم ضرب الذلة والمسكنة، وما أحسن التفات هذه الآية إلى أول الآيات المحذرة من أهل الكتاب ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 44‏]‏ المختتمة بقوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 45‏]‏ ‏{‏وقد‏}‏ أي يتخذونهم والحال أنه قد ‏{‏نزل عليكم‏}‏ أي أيتها الأمة، الصادقين منكم والمنافقين ‏{‏في الكتاب‏}‏ أي في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم، أفلا تخافون عزة من نهاكم عن ذلك أن يضربكم بذل لا تخلصون منه أبداً، لأنهم لا ينفكون عن الكفر بآيات الله فإنه لا تباح ولايتهم في حال من الأحوال إلا عند الإعراض عن الكفر، وذلك هو المراد من قوله‏:‏ ‏{‏أنْ‏}‏ أي إنه ‏{‏إذا سمعتم آيات الله‏}‏ أي ذي الجلال والإكرام‏.‏

ولما كان السماع مجملاً بين المراد بقول‏:‏ ‏{‏يكفر بها‏}‏ أي يستر ما أظهرت من الأدلة من أي كافر كان من اليهود وغيرهم ‏{‏ويستهزأ بها‏}‏ أي يطلب طلباً شديداً أن تكون مما يهزأ به ‏{‏فلا تقعدوا معهم‏}‏ أي الذين يفعلون ذلك بها ‏{‏حتى يخوضوا‏}‏ وعبر عن الشروع بالخوض إيماء إلى أن كلامهم لا يخلو عن شيء في غير موضعه، رمزاً إلى عدم مجالستهم على كل حال ‏{‏في حديث غيره‏}‏ فهذا نهي من مجرد مجالستهم فكيف بولايتهم‏.‏

ولما كانت آية الأنعام مكية اقتصر فيها على مجرد الإعراض وقطع المجالسة لعدم التمكن من الإنكار بغير القلب، وأما هذه الآية فمدنية فالتغيير عند إنزالها باللسان واليد ممكن لكل مسلم، فالمجالس من غير نكير راض، فلهذا علل بقوله‏:‏ ‏{‏إنكم إذاً‏}‏ أي إذا قعدتم معهم وهم يفعلون ذلك ‏{‏مثلهم‏}‏ أي في الكفر لأن مجالسة المظهر للإيماء المصرح بالكفران دالة على أن إظهاره لما أظهر نفاق، وأنه راض بما يصرح به هذا الكافر والرضى بالكفر كفر، فاشتد حسن ختم الآية بجمع الفريقين في جهنم بقوله مستأنفاً لجواب السؤال عما تكون به المماثلة‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته ‏{‏جامع‏}‏‏.‏

ولما كان حال الأخفى أهم قدم قوله‏:‏ ‏{‏المنافقين‏}‏ أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فيقعدون مع من يسمعونه بكفر ‏{‏والكافرين‏}‏ أي الذين يجاهرون بكفرهم لرسوخهم فيه ‏{‏في جهنم‏}‏ التي هي سجن الملك ‏{‏جميعاً‏}‏ كما جمعهم معهم مجلس الكفر الذي هو طعن في ملك الملك، والتسوية بينهم في الكفر بالقعود معهم دالة على التسوية بين العاصي ومجالسه بالخلطة من غير إنكار؛ ثم وصفهم سبحانه وتعالى بما يعرف بهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يتربصون بكم‏}‏ أي يثبتون على حالهم انتظاراً لوقوع ما يغيظكم ‏{‏فإن كان لكم فتح‏}‏ أي ظهور وعز وظفر، وقال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها- تذكيراً للمؤمنين بما يديم اعتمادهم عليه وافتقارهم إليه ‏{‏قالوا‏}‏ أي الذين آمنوا نفاقاً لكم أيها المؤمنون ‏{‏ألم نكن معكم‏}‏ أي ظاهراً بأبداننا بما تسمعون من أقوالنا فأشركونا في فتحكم ‏{‏وإن كان للكافرين‏}‏ أي المجاهرين، وقال‏:‏ ‏{‏نصيب‏}‏ تحقيراً لظفرهم وأنه لا يضر بما حصل للمؤمنين من الفتح ‏{‏قالوا‏}‏ للكافرين ليشركوهم في نصيبهم ‏{‏ألم نستحوذ عليكم‏}‏ أي نطلب حياطتكم والمحافظة على مودتكم حتى غلبنا على جميع أسراركم واستولينا عليها، وخالطناكم مخالطة الدم للبدن، من قولهم‏:‏ حاذه، أي حاطه وحافظ عليه ‏{‏ونمنعكم من المؤمنين‏}‏ أي من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به، ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرغبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد، لتصديقهم لنا لأظهارنا الإيمان، ورضانا من مداهنة من نكره بما لا يرضاه إنسان‏.‏

ولما كان هذا لأهل الله سبحانه وتعالى أمراً غائظاً مقلقاً موجعاً؛ سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فالله‏}‏ أي بما له من جميع صفات العظمة ‏{‏يحكم بينكم‏}‏ أي أيها المؤمنون والكافرون المساترون والمجاهرون‏.‏

ولما كان الحكم في الدارين بين أنه في الدار التي لا يظهر فيها لأحد غيره أمر ظاهراً ولا باطناً، وتظهر فيها جميع المخبئات فقال‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ ولما كان هذا ربما أيأسهم من الدنيا قال‏:‏ ‏{‏ولن يجعل الله‏}‏ عبر بأداة التأكيد وبالاسم الأعظم لاستبعاد الغلبة على الكفرة لما لهم في ذلك الزمان من القوة والكثرة ‏{‏للكافرين‏}‏ أي سواء كانوا مساترين أو مجاهرين ‏{‏على المؤمنين‏}‏ أي كلهم ‏{‏سبيلاً *‏}‏ أي بوجه في دنيا ولا آخرة، وهذا تسفيه لآرائهم واستخفاف بعقولهم فكأنه يقول‏:‏ يا أيها المتربصون بأحباب الله الدوائر، المتمنون لأعدائه النصر- وقد قامت الأدلة على أن العزة جميعاً لله-‏!‏ ما أضلكم في ظنكم أنه يخذل أولياءه‏!‏ وما أغلظ أكبادكم‏!‏ ويدخل في عمومها أنه لا يقتل مسلم بذمي، ولا يملك كافر مال مسلم قهراً؛ ثم بين أن صورتهم في ضربهم الشقة بالوجهين صورة المخادع، وما أضلهم حيث خادعوا من لا يجوز عليه الخداع لعلمه بالخافيا، فقال معاللاً لمنعهم السبيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 144‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏إن المنافقين‏}‏ لإظهارهم لكل من غلب أنهم منه ‏{‏يخادعون الله‏}‏ أي يفعلون بإظهار ما يسر وإبطان ما يضر فعل المخادع مع من له الإحاطة الكاملة بكل شيء لأنه سبحانه وتعالى يستدرجهم من حيث لا يشعرون، وهم يخدعون المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر ‏{‏وهو‏}‏ الذي أمر المؤمنين بما أمرهم فكأنهم يفعلون ذلك معه وهو ‏{‏خادعهم‏}‏ باستدراجهم من حيث لا يعلمون، لأنه قادر على أخذهم من مأمنهم وهم ليسوا قادرين على خدعه بوجه ‏{‏وإذا‏}‏ أي يخادعونه والحال أنهم قد فضحوا أنفسهم بما أظهر مكرهم للمستبصرين وهو أنهم إذا ‏{‏قاموا إلى الصلاة‏}‏ أي المكتوبة ‏{‏قاموا كسالى‏}‏ متقاعسين متثاقلين عادة، لا ينفكون عنها، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم، لأنهم يرون أناه تعب من غير أرب، فالداعي إلى تركها- وهو الراحة- أقوى من الداعي إلى فعلها وهو خوف الناس؛ ثم استأن في جواب من كأنه قال‏:‏ ما لهم يفعلون ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏يرآءون الناس‏}‏ أي يفعلون ذلك ليراهم الناس، ليس إلا ليظنوهم مؤمنين، ويريهم الناس لأجل ذلك ما يسرهم من عدهم في عداد المؤمنين لما يرون هم المؤمنين حين يصلون ‏{‏ولا يذكرون الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال في الصلاة وغيرها ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ أي حيث يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم، يفعلون ذلك حال كونهم ‏{‏مذبذبين‏}‏ أي مضطربين كما يضطرب الشيء الخفيف المعلق في الهواء، وحقيقة‏:‏ الذي يذب عن كلا الجانبين ذباً عظيماً‏.‏

ولما كان ما تقدم يدل على إيمانهم تارة وكفرهم أخرى قال‏:‏ ‏{‏بين ذلك‏}‏ أي الإيمان والكفر؛ ولما كان الإيمان يدل على أهله والكفر كذلك قال‏:‏ ‏{‏لا إلى‏}‏ أي لا يجدون سبيلاً مفر إلى ‏{‏هؤلاء‏}‏ أي المؤمنين ‏{‏ولا إلى هؤلاء‏}‏ أي الكافرين؛ ولما كان التقدير‏!‏ لأن الله أضلهم، بنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله‏}‏ أي الشامل القدرة الكامل العلم ‏{‏فلن تجد‏}‏ أي أصلاً ‏{‏له سبيلاً *‏}‏ أي طريقاً إلى شيء يريده‏.‏

ولما انقضى ما أراد من الإنكار على من ادعى الإيمان في اتخاذ الكافرين أولياء، المستلزم للنهي عن ذلك الاتخاذ، صرح به مخاطباً للمؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين ءامنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقاً أو كذباً ‏{‏لا تتخذوا‏}‏ أي تكلفوا أنفسكم غير ما تدعوا إليه الفطرة الأولى السليمة فتأخذوا ‏{‏الكافرين‏}‏ أي المجاهرين بالكفر الغريقين فيه ‏{‏أولياء‏}‏ أي أقرباء، تفعلون معهم من الود والنصرة ما يفعل القريب مع قريبه‏.‏

ولما كان الغريق في الإيمان أعلى الناس، وكان تحت رتبته رتب متكاثره، نبه على ذلك وعلى دناءة مقصدهم بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ أي الغريقين في الإيمان، وهذا إشارة إلى أنه لا يصح لمن يواليهم دعوى الإيمان، ولذلك قال منكراً‏:‏ ‏{‏أتريدون‏}‏ أي بموالاتهم ‏{‏أن تجعلوا لله‏}‏ أي الذي لا تطاق سطوته لأن له الكمال كله ‏{‏عليكم‏}‏ أي في النسبة إلى النفاق ‏{‏سلطاناً‏}‏ أي دليلاً اضحاً على كفركم باتباعكم غير سبيل المؤمنين ‏{‏مبيناً *‏}‏ واضحاً مسوِّغاً لعقابكم وخزيكم وجعلكم في زمرة المنافقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 147‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏‏}‏

ولما نهاهم عن فعل المنافقين استأنف بيان جزائهم عنده فقال‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك‏}‏ أي البطن والمنزل ‏{‏الأسفل من النار‏}‏ لأن ذلك أخفى ما في النار وأستره وأدناه وأوضعه كما أن كفرهم أخفى الكفر وأدناه، وهو أيضاً أخبث طبقات النار كما أن كفرهم أخبث أنواع الكفر، وفيه أن من السلطان وضع فاعل ذلك في دار المنافقين لفعله مثل فعلهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وسميت طبقات النار أدراكاً لأناه متداركة متتابعة إلى أسفل كما أن الدرج متراقية إلى فوق‏.‏

ولما أخبر أنهم من هذا المحل الضنك، أخبر بدوامه لهم على وجه مؤلم جداً فقال‏:‏ ‏{‏ولن تجد‏}‏ أي أبداً ‏{‏لهم نصيراً *‏}‏ وأشار بالنهي عن موالاتهم وعدم نصرهم إلى ختام أول الآيات المحذرة من الكافرين ‏{‏وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 45‏]‏‏.‏

ولما كان فيما تقدم أن الغفران للكافر- أعم من أن يكون منافقاً أولاً- متعذر، وأتبعه ما لاءمه إلى أن ختم بما دل على أن النفاق أغلظ أنواع الكفر استثنى منه دلالة على أن غيره من الكفرة في هذا الاستثناء أولى، تنبيهاً على أن ذلك النفي المبالغ فيه إنما هو لمن مات على ذلك، ولكنه سيق على ذلك الوجه تهويلاً لما ذكره في حيزه وتنفيراً منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ أي رجعوا عما كانوا عليه من النفاق بالندم والإقلاع ‏{‏وأصلحوا‏}‏ أي أعمالهم الظاهرة من الصلاة التي كانوا يراؤون فيها وغيرها بالإقلاع عن النفاق ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ أي اجتهدوا في أن تكون عصمتهم- أي ارتباطهم- بالملك الأعظم في عدم العود إلى ما كانوا عليه‏.‏

ولما كان الإقلاع عن النفاق الذي من أنواعه الرياء- أصلاً ورأساً في غاية العسر قال حثاً على مجاهدة النفس فيه‏:‏ ‏{‏وأخلصوا دينهم‏}‏ أي كله ‏{‏لله‏}‏ أي الذي له الكمال كله، فلم يريدوا بشيء من عبادتهم غير وجهه لا رياء ولا غيره ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏مع المؤمنين‏}‏ أي الذي صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً في الجنة، وإن عذبوا على معاصيهم ففي الطبقة العليا من النار ‏{‏وسوف يؤت الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏المؤمنين‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه وإن أصابهم قبل ذلك ما أصابهم وإن طال عذابهم، تهذيباً لهم من المعاصي بما أشار إليه لفظ «سوف» ‏{‏أجراً عظيماً *‏}‏ أي بالخلود في الجنة التي لا ينقضي نعيمها، ولا يتكدر يوماً نزيلها، فيشاركهم من كان معهم، لأنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم‏.‏

ولما كان معنى الاستثناء أنه لا يعذبهم، وأنهم يجدون الشفيع بإذنه؛ قال مؤكداً لذلك على وجه الاستنتاج منكراً على من ظن أنه لا يقبلهم بعد الإغراق في المهالك‏:‏ ‏{‏ما يفعل الله‏}‏ أي وهو المتصف بصفات الكمال التي منها الغنى المطلق ‏{‏بعذابكم‏}‏ أي أيها الناس، فإنه لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً‏.‏

ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا قال‏:‏ ‏{‏إن شكرتم‏}‏ أي نعمه التي من أعظمها إنزال الكتاب الهادي إلى الرشاد، المنقذ من كل ضلال، المبين لجميع ما يحتاج إليه العباد، فأداكم التفكر في حالها إلى معرفة مسديها، فأذعنتم له وهرعتم إلى طاعته بالإخلاص في عبادته وأبعدتم عن معصيته‏.‏

ولما كان الشكر هو الحامل على الإيمان قدمه عليه، ولما كان لا يقبل إلا به قال‏:‏ ‏{‏وآمنتم‏}‏ أي به إيماناً خالصاً موافقاً فيه القلب ما أظهره اللسان؛ ولما كان معنى الإنكار أنه لا يعذبكم، بل يشكر ذلك قال عاطفاً عليه‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً ‏{‏شاكراً‏}‏ لمن شكره بإثابته على طاعته فوق ما يستحقه ‏{‏عليماً *‏}‏ بمن عمل له شيئاً وإن دق، لا يجوز عليه سهو ولا غلط ولا اشتباه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 151‏]‏

‏{‏لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏‏}‏

ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من تقبيح حال المجالسين الخائضين في آياته بما هي منزهة عنه، ومما يتبعه من وصفهم وبيان قصدهم بتلك المجالسة من النهي عن مثل حالهم، ومن جزاء من فعل مثل فعلهم- إلى أن ختم بأشد عذاب المنافقين، وحث على التوبة بما ختمه بصفتي الشكر والعلم؛ أخبر أنه يبغض خوض الكافرين الذين قبح مجالستهم حال التلبس به، وكذا كل جهر بسوء إلا ما استثناه، فمن أقدم على ما لا يحبه لم يقم بحق عبوديته، فقال معللاً ما مضى قبل افتتاح أمر المنافقين من الأمر بإحسانه التحية‏:‏ ‏{‏لا يحب الله‏}‏ أي المختص بصفات الكمال ‏{‏الجهر‏}‏ أي ما يظهر فيصير في عداد الجهر ‏{‏بالسوء‏}‏ أي الذي يسوء ويؤذي ‏{‏من القول‏}‏ أي لأحد كائناً من كان، فإن ذلك ليس من شكر الله تعالى في الإحسان إلى عباده وعياله ولا من شكر الناس في شيء ولا يشكر الله من لا يشكر الناس ‏{‏إلا من‏}‏ أي جهر من ‏{‏ظلم‏}‏ أي كان من أحد من الناس ظلم إليه كائناً من كان فإنه يجوز له الجهر بشكواه والتظلم منه والدعاء عليه وإن ساءه ذلك بحيث لا يعتدي‏.‏

ولما كان القول مما يسمع، وكان من الظلم ما قد يخفي، قال مرغباً مرهباً‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏سمعياً‏}‏ أي لكل ما يمكن سماعه من جهر وغيره ‏{‏عليماً *‏}‏ أي بكل ما يمكن أن يعلم فاحذروه لئلا يفعل بكم فعل الساخط، وجهر ومن ظلم- وإن كان داخلاً فيما يحبه الله تعالى على تقدير كون الاستثناء متصلاً- لكن جعله من جملة السوء وإن كان من باب المشاكلة فإن فيه لطيفة، وهي نهي الفطن عن تعاطيه وحثه على العفو، لأن من علم أن فعله بحيث ينطلق اسم السوء- على أي وجه كان إطلاقه- كف عنه إن كان موفقاً‏.‏

ولما كانت معاقد الخيرات على كثرتها منحصرة في قسمين‏:‏ إيصال النفع إبداء وإخفاء، ودفع الضرر، فكان قد أشار سبحانه وتعالى إلى العفو، وختم بصفتي السمع والعلم؛ قال مصرحاً بالندب إلى العفو والإحسان، فكان نادباً إليه مرتين‏:‏ الأولى بطريق الإشارة لأولى البصارة، والثانية بطريق العبارة للراغبين في التجارة، حثاً على الأحب إليه سبحانه والأفضل عنده والأدخل في باب الكرم‏:‏ ‏{‏إن تبدوا خيراً‏}‏ أي من قول أو غيره ‏{‏أو تخفوه‏}‏ أي تفعلوه خفية ابتداء أو في مقابلة سوء فعل إليكم؛ ولما ذكر فعل الخير أتبعه نوعاً منه هو أفضله فقال‏:‏ ‏{‏أو تعفوا عن سوء‏}‏ أي فعل بكم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ يعلمه بما له من صفتي السمع والعلم فيجازي عليه بخير أفضل منه وعفو أعظم من عفوكم؛ سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فإن‏}‏ أي فأنتم جديرون بالعفو بسبب علمكم بأن ‏{‏الله كان‏}‏ أي دائماً أزلاً وأبداً ‏{‏عفواً‏}‏ ولما كان ترك العقاب لا يسمى عفواً إلا إذا كان من قادر وكان الكف- عند القدرة عن الانتقام، ممن أثر في القلوب الآثار العظام- بعيداً، شاقاً على النفس شديداً؛ قال تعالى مذكراً للعباد بذنوبهم إليه وقدرته عليهم‏:‏ ‏{‏قديراً *‏}‏ أي بالغ العفو عن كل ما يريد العفو عنه من أفعال الجانين والقدرة على كل ما يريد ومن يريد، فالذي لا ينفك عن ذنب وعجز أولى بالعفو طمعاً في عفو القادر عنه وخوفاً من انتقامه منه وتخلقاً بخلقه العظيم والاقتداء بسنته‏.‏

ولما انقضى ذلك على أتم وجه وأحسن سياق ونحو، وختم بصفتي العفو والقدرة؛ شرع في بيان أحوال من لا يعفى عنه من أهل الكتاب، وبيان أنهم هم الذين أضلوا المنافقين بما يلقون إليهم من الشبه التي وسَّعَ عقولهم لها ما أنعم به عليهم سبحانه وتعالى من العلم، فأبدوا الشر وكتموا الخير، فوضعوا نعمته حيث يكره، ثم كشف سبحانه وتعالى بعض شبههم، فقال مبيناً لما افتتح به قصصهم من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، ويريدون ضلال غيرهم، بعد أن كان ختم هناك ما قبل قصصهم بقوله عفواً قديراً‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون‏}‏ أي يسترون ما عندهم من العلم ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي له الاختصاص بالجلال والجمال ‏{‏ورسله‏}‏‏.‏

ولما ذكر آخر أمرهم ذكر السبب الموقع فيه فقال‏:‏ ‏{‏ويريدون أن يفرقوا بين الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه ‏{‏ورسله‏}‏ أي فيصدقون بالله ويكذبون ببعض الرسل فينفون رسالاتهم، المستلزم لنسبتهم إلى الكذب على الله المقتضي لكون الله سبحانه وتعالى بريئاً منهم‏.‏

ولما ذكر الإرادة ذكر ما نشأ عنها فقال‏:‏ ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض‏}‏ أي من الله ورسله كاليهود الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وغيره إلا عيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا بهما ‏{‏ونكفر ببعض‏}‏ أي من ذلك وهم الرسل كمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ويريدون أن يتخذوا‏}‏ أي يتكلفوا أن يأخذوا ‏{‏بين ذلك‏}‏ أي الإيمان والكفر ‏{‏سبيلاً *‏}‏ أي طريقاً يكفرون به، وعطف الجمل بالواو- وإن كان بعضها سبباً لبعض- إشارة إلى أنهم جديرون بالوصف بكل منها على انفراده، وأن كل خصلة كافية في نسبة الكفر إليهم، وقدم نتيجتها، وختم بالحكم بها على وجه أضخم، تفظيعاً لحالهم، وأصل الكلام‏:‏ أرادوا سبيلاً بين سبيلين، فقالوا‏:‏ نكفر ببعض، فأرادوا التفرقة، فكفروا كفراً هو في غاية الشناعة على علم منهم، فأنتج ذلك‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏هم الكافرون‏}‏ أي الغريقون في الكفر ‏{‏حقاً‏}‏ ولزمهم الكفر بالجميع لأن الدليل على نبوة البعض لزم منه القطع بنبوة كل من حصل منه مثل ذلك الدليل، وحيث جوز حصول الدليل بدون المدلول تعذر الاستدلال به على شيء كالمعجزة، فلزم حينئذ الكفر بالجميع، فثبت أن من كذب بنبوة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لزمه الكفر بجميع الأنبياء، ومن لزمه الكفر بهم لزمه الكفر بالله وكل ما جاء به‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلا جرم أنا أعتدنا- أي هيأنا- لهم عذاباً مهيناً، عطف عليه تعميماً‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين‏}‏ أي جميعاً ‏{‏عذاباً مهيناً *‏}‏ أي كما استهانوا ببعض الرسل وهم الجديرون بالحب والكرامة، والآية شاملة لهم ولغيرهم ممن كان حاله كحالهم، وإيلاء ذلك بيان أحوال المنافقين أنسب شيء وأحسنه للتعريف بأنهم منافقون، من حيث أنهم يظهرون شيئاً من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويبطنون غيره وإن كان ما يظهرونه على الضد مما يظهره المنافقون، وبأنهم هم الذين أضلوا المنافقين، وللتحذير من أقوالهم وتزييف ما حرفوا من محالهم، وفي ذلك التفات إلى أول هذه القصة ‏{‏يا أيها الذين ءامنوا ءامِنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏152- 153‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏‏}‏

ولما بين سبحانه وتعالى ما أعد لهم بيّن ما أعد لأضدادهم من أهل طاعته بقوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا بالله‏}‏ أي الذي له الكمال والجمال ‏{‏ورسله‏}‏ ولما جمعوهم في الإيمان ضد ما فعل أهل الكفران، صرح بما أفهمه فقال‏:‏ ‏{‏ولم يفرقوا‏}‏ أي في اعتقادهم ‏{‏بين أحد منهم‏}‏ أي لم يجعلوا أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض- كما فعل الأشقياء، والتفرقة تقتضي شيئين فصاعداً، و«أحد» عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، فلذلك صح التعبير به بمعنى‏:‏ بين اثنين أو جماعة، وكأنه اختير للمبالغة بأن لو أن الواحد يمكن فيه التفرقة فكان الإيمان بالبعض دون البعض كفراً ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة في رتب السعادة‏.‏

ولما كان المراد تأكيد وعدهم، وكان المشاهد فيه غالباً التأخر قال‏:‏ ‏{‏سوف نؤتيهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه وإن تأخر، فالمراد تحقيقه، لا تحقيق تأخره، ولكنه أتى بالأداة التي هي أكثر حروفاً وأشد تنفيساً، لأن هذا السياق لأهل الإيمان المجرد، الشامل لمن لم يكن له عمل، ولذا أضاف الأجور إليهم، وختم بالمغفرة لئلا يحصل لهم بأس وإن طال المدى ‏{‏أجورهم‏}‏ أي كاملة بحسب نياتهم وأعمالهم‏.‏

ولما كان الإنسان محل النقصان قال‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي لا يبلغ الواصفون كنه ما له من صفات الكمال ‏{‏غفوراً‏}‏ لما يريد من الزلات ‏{‏رحيماً *‏}‏ أي بمن يريد إسعادة بالجنات‏.‏

ولما أخبر تعالى بما على المفرقين بين الله ورسله وما لأضدادهم أتبعه بعض ما أرادوا به الفرقة، وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا من اليهود قالا كذباً‏:‏ إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء نعاينه حين ينزل- كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بكتابه كذلك، فأنزل الله تعالى موبخاً لهم على هذا الكذب مشيراً إلى كذبهم فيه موهياً لسؤالهم محذراً من غوائله مبيناً لكفرهم بالله ورسله‏:‏ ‏{‏يسألك‏}‏‏.‏

ولما كانت هذه من أعظم شبههم التي أضلوا بها من أراد الله، وذلك أنهم رأوا أن هذا الكتاب المبين أعظم المعجزات، وأن العرب لم يمكنهم الطعن فيه على وجه يمكن قبوله، فوجهوا مكايدهم نحوه بهذه الشبهة ونحوها، زيفها سبحانه وتعالى أتم تزييف، وفضحهم بسببها غاية الفضيحة، وزاد سبحانه في تبكيتهم بقوله‏:‏ ‏{‏أهل الكتاب‏}‏ إشارة إلى أن العالم ينبغي له أن يكون أبعد الناس من التمويه فضلاً عن الكذب الصريح ‏{‏أن تنزل عليهم‏}‏ أي خاصاً بهم بإثبات أسمائهم ‏{‏كتاباً من السماء‏}‏؛ وما أوهموا به في قولهم هذا من أن موسى عليه الصلاة والسلام أتى بالتوراة جملة كذبة تلقفها منهم من أراد الله تعالى من أهل الإسلام، ظناً منهم أن الله تبارك وتعالى أقرهم عليها وليس كذلك- كما يفهمه السياق كله، ويأتي ما هو كالصريح فيه في قوله‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك‏}‏- الآية كما سيأتي بيانه، واليهود الآن معترفون بأنها لم تنزل جملة، وقال الكلبي في قصة البقرة التي ذبحوها لأجل القتيل الذي تداروا فيه‏:‏ وذلك قبل نزول القسامة في التوراة‏.‏

ولما كان هذا مما يستعظمه النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك مبيناً تسلية له صلى الله عليه وسلم أن عادتهم التعنت، وديدنهم الكفر وأنهم أغرق الناس في غلظ الأكباد وجلافة الطبائع، وأن أوائلهم تعنتوا على من يدعون الإيمان به الآن، وأنهم على شريعته، وأحب شيء فيه ما أراهم من تلك الآيات العظام التي منها استنقاذهم من العبودية بل من الذبح وأن ذلك تكرر منهم مع ما يشاهدونه من القوارع والعفو فقال‏:‏ ‏{‏فقد‏}‏ أي إن تستعظم ذلك فقد ‏{‏سألوا‏}‏ أي آباؤهم، أي وهم على نهجهم في التعنت فهم شركاؤهم ‏{‏موسى‏}‏ لغير داع سوى التعنت ‏{‏أكبر‏}‏ أي أعظم ‏{‏من ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الذي واجهوك به بعد ما ظهرت من المعجزات ما أوجبنا على كل من علمها الإيمان بك والتأديب معك، ثم بينه بقوله‏:‏ ‏{‏فقالوا أرنا الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا شبيه له وتقصر العقول عن الإحاطة بعظمته ‏{‏جهرة‏}‏ أي عياناً من غير ستر ولا حجاب ولا نوع من خفاء بل تحيط به أبصارنا كما يحيط السمع بالقول الجهر، وهذا يدل على أن كلاً من السؤالين ممنوع لكونه ظلماً، لأدائه إلى الاستخفاف بما نقدمه من المعجزات، وعده غير كاف مع أن إنزا الكتاب جملة غير مناسب للحكمة التي بنيت عليها هذه الدار من ربط المسببات بالأسباب وبنائها عليها، لأن من المعلوم أن تفريق الأوامر سبب لخفة حملها، وذلك أدعى لامتثالها وايسر لحفظها وأعون على فهمها، وأعظم تثبيتاً للمنزل عليه وأشرح لصدره وأقوى لقلبه وأبعث لشوقه، والرؤية على هذا الوجه الذي طلبوه- وهو الإحاطة- محال فسؤالهم لذلك استخفاف مع أنه تعنت، ولذلك سبب عن سؤالهم قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ أي عقب هذا السؤال وبسببه من غير إمهال أخذ قهر وغلبة ‏{‏الصاعقة‏}‏ أي نار نزلت من السماء بصوت عظيم هو جدير بأن لا يسمى غيره- إذا نسب إليه- صاعقة، فأهلكتهم ‏{‏بظلمهم‏}‏ أي بسبب ظلمهم بهذا السؤال وغيره، لكونه تعنتاً من غير مقتض له أصلاً، وبطلب الرؤية على وجه محال وهو طلب الإحاطة ‏{‏ثم‏}‏ بعد العفو عنهم وإحيائهم من إماتة هذه الصاعقة ‏{‏اتخذوا العجل‏}‏ أي تكلفوا أخذه وعتوا أنفسهم باصطناعه‏.‏

ولما كان الضال بعد فرط البيان أجدر بالتبكيت قال‏:‏ ‏{‏من بعد‏}‏ وأدخل الجار إعلاماً بأن اتخاذهم لم يستغرق زمان البعد، بل تابوا عنه ‏{‏ما جاءتهم البينات‏}‏ أي بهذا الإحياء وغيره من المعجزات ‏{‏فعفونا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏عن ذلك‏}‏ أي الذنب العظيم بتوبتنا عليهم من غير استئصال لهم ‏{‏وآتينا‏}‏ أي بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة ‏{‏موسى سلطاناً‏}‏ أي تسلطاًَ واستيلاء قاهراً ‏{‏مبيناً *‏}‏ أي ظاهراً فإنه أمرهم بقتل أنفسهم فبادروا الامتثال بعد ما ارتكبوا من عظيم هذا الضلال، وفي رمز ظاهر إلى أنه سبحانه وتعالى يسلط محمداً صلى الله عليه وسلم على كل من يعانده أعظم من هذا التسليط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154- 155‏]‏

‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏‏}‏

ولما بيَّن هذا من عظمته أتبعه أمراً آخر أعظم منه فقال‏:‏ ‏{‏ورفعنا‏}‏ أي بعظمتنا؛ ولما كان قد ملأ جهة الفوق بأن وارى جميع أبدانهم ولم يسلم أحد منهم من ذلك؛ نزع الجار فقال‏:‏ ‏{‏فوقهم الطور‏}‏ أي الجبل العظيم، ثم ذكر سبب رفعه فقال‏:‏ ‏{‏بميثاقهم‏}‏ أي حتى التزموه وأذعنوا له وقبلوه‏.‏

ولما ذكر الميثاق على هذا الوجه العجيب أتبعه ما نقضوا فيه على سهولته دليلاً على سوء طباعهم فقال‏:‏ ‏{‏وقلنا لهم‏}‏ أي بما تكرر لهم من رؤية عظمتنا ‏{‏ادخلوا الباب‏}‏ أي الذي لبيت المقدس ‏{‏سجداً‏}‏ أي فنقضوا ذلك العهد الوثيق وبدلوا ‏{‏وقلنا لهم‏}‏ أي على لسان موسى عليه الصلاة والسلام في كثير من التوراة ‏{‏لا تعدوا‏}‏ أي لا تتجاوزوا ما حددناه لكم ‏{‏في السبت‏}‏ أي لا تعملوا فيه عملاً من الأعمال- تسمية للشيء باسم سببه سمي عدواً لأن العالم للشيء يكون لشدة إقباله عليه كأنه يعدو ‏{‏وأخذنا منهم‏}‏ أي في جميع ذلك ‏{‏ميثاقاً غليظاً *‏}‏ وإنما جزمت بأن المراد بهذا- والله تعالى أعلم- على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، لأنه تعالى كرر التأكيد عليهم في التوراة في حفظ السبت، وأوصاهم به، وعهد إليهم فيه ما قل أن عهده في شيء من الفروع غيره، قال بعض المترجمين للتوراة في السفر الثاني في العشر الآيات التي أولها «أنا إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا يكون لك إله غيري» ما نصه‏:‏ اذكر حفظ يوم السبت وطهره ستة أيام، كد فيها واصنع جميع ما ينبغي لك أن تصنعه، واليوم السابع سبت الله ربك، لا تعملن فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك ودوابك والساكن في قراك، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وجميع ما فيها، واستراح في اليوم السابع، ولذلك بارك الله اليوم السابع وقدسه، أكرم أباك- إلى آخر ما مر في سورة البقرة؛ ثم عاد العشر الآيات في أوائل السفر الخامس وقال في السبت‏:‏ احفظوا يوم السبت وظهوره كما أمركم الله ربكم، واعملوا الأعمال في ستة أيام كما أمركم الله ربكم، واعملوا الأعمال في ستة أيام، فاصنعوا ما أردتم أن تصنعوا فيها، فأما يوم السبت فأسبوع ربكم، لا تعملوا فيه عملاً أنتم وبنوكم وعبيدكم وإماؤكم وثيرانكم وحميركم وكل بهائمكم والساكن الذي في قراكم ليستريح عبيدكم- إلى آخر ما في أوائل هذه السورة عند ‏{‏ويهديكم سنن الذين من قبلكم‏}‏ وقال في الثاني بعد ذلك‏:‏ وقال الرب لموسى‏:‏ وأنت فأمر بني إسرائيل أن تحفظوا السبوت، لأنها أمارة العهد وعلامة فيما بيني وبينكم لأحقابكم، فتعلموا أني أنا الرب إلهكم مقدسكم، احفظوا يوم السبت فإنه مطهر مخصوص لكم، ومن نقصه وأخذ العمل فيه فليقتل، ومن عمل عملاً فليهلك ذلك الإنسان من شعبه، اعملوا أعمالكم ستة أيام، واليوم السابع فهو يوم سبت قدس للرب، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وما فيها، وهذا في اليوم السابع ودفع إلى موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ كلامه له في طور سيناء لوحي الشهادة، وأبلغ في تأكيد حفظه عليهم في غير ذلك من المواضع، حتى أنه شرع لهم أسباب الأرض ونحوها، فقال في السفر الثاني أيضاً‏:‏ ازرع أرضك ست سنين واحمل أثقالها وفي السنة السابعة ابذرها ودعها فيأكل مسكين شعبك، وما يبقى بعد ذلك يأكله حيوان البر وكذلك فافعل بكرومك وزيتونك، اعمل عملك في ستة أيام وفي اليوم السابع تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك، وتستريح أمتك وابن أمتك والساكن في قراك، ثم ذكر الأعياد في السفر الثالث، وحرم العمل فيها؛ وقال في بعضها‏:‏ وكل نفس يعمل عملاً في هذا اليوم تهلك تلك النفس من شعبها، فلا تعملوا فيه عملاً، لأنه سنة جارية لكم إلى الأبد في جميع مساكنكم، فليكن هذا اليوم سبت السبوت؛ ثم أمرهم بعيد المظال سبعة أيام وقال‏:‏ ليعلم أحقابكم أنني أجلست بني إسرائيل في المظال حيث أخرجتهم من أرض مصر، ثم ذكر بعض القرابين وقال‏:‏ ويصف هارون الخبز صفين في اليوم السادس وهو يوم الجمعة، ويكون ذلك من عيد بني إسرائيل؛ وكلم الرب موسى وقال له في طور سيناء كلم بني إسرائيل وقل لهم‏:‏ إذا دخلتم الأرض التي أعطيكم ميراثاً تسبت الأرض سبتاً للرب، ازرعوا مزارعكم ست سنين واكسحوا كرومكم ست سنين، واستغلوا غلاتكم ست سنين، فأما السنة السابعة فلتكن سبت الراحة للأرض، لا تزرعوا مزارعكم، ولا تكسحوا كرومكم، ول تحصدوا ما ينبت في أرضكم في تلك السنة من غير أن يزرع، ولا تقطعوا عنب كرومكم، بل يكون سبت الراحة للأرض لكم ولبنيكم ولإمائكم ولإخوانكم وللسكان الذين يسكنون معكم، وأحصوا سبع مرات سبعاً سبعاً‏:‏ تسعاً وأربعين سنة، وقدسوا سنة خمسين، وليكن رد الأشياء إلى أربابها، ولا تزرعوا أرضكم في تلك السنة، ولا تحصدوا ما نبت فيها، ولا تقطعوا عشبها لأنها سنة الرد، واتقوا الله لأني أنا الله ربكم، احفظوا وصاياي واعملوا بها، واحفظوا أحكامي واعملوا بها، واسكنوا أرضكم بالسكون والطمأنينة لتغل لكم الأرض غلاتها، وتأكلوا وتشبعوا وتسكنوها مطمئنين، وإن قلتم‏:‏ من أين نأكل في السنة السابعة التي لا نزرع فيها فلا تهتموا‏!‏ أنا منزل لكم بركاتي في السادسة، وتغل لكم أرضكم في تلك السنة غلة ثلاث سنين، حتى إذا زرعتم في السنة الثامنة لم تحتاجوا إلى غلتها، لأنكم تأكلون من السنة السادسة إلى التاسعة، وأما الأرض فلا تباع بيعاً صحيحاً أبداً، لن الأرض لي، وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا نسبة الاستراحة إليه سبحانه هذا مع أنه أكد سبحانه العهود عليهم في التوحيد وحفظ الأحكام في جميع التوراة على نحو ما تراه فيما أنقله منها في هذا الكتاب‏.‏

فلما بين سبحانه أنه أكد عليهم الميثاق، وأكثر من التقدم في حفظ العهد؛ بين أنهم نقضوا، فأقبهم بسبب ذلك ما هددوا به في التوراة من الخزي وضرب الذلة مع ما ادخر لهم في الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏فبما‏}‏ مؤكداً بإدخال «ما» ‏{‏نقضهم ميثاقهم‏}‏ أي فعلنا بهم بسبب ذلك جميع ما ذكرنا في التوراة من الخزي، وقد تقدم كثير منه في القرآن، ولا يبعد عندي تعليقه بقوله الآتي «حرمنا عليهم طيبات- واعتدنا» ويكون من الطيبات العز ورغد العيش، وذلك جامع لنكد الدارين وعطف على هذا الأمر العام ما اشتدت به العناية من إفراده عطف الخاص على العام فقال‏:‏ ‏{‏وكفرهم بآيات الله‏}‏ مما جاءهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم واقتضت حكمته سبحانه أن يكون عظمتها مناسبة لعظمة اسمه الأعظم الذي هو مسمى جميع الأسماء، فاستلزم كفرهم به كفرهم بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أعظم ما نقضوا فيه وأخص من مطلق النقض ‏{‏وقتلهم الأنبياء‏}‏ وهو أعظم من مطلق كفرهم، لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم، لأن الأنبياء سبب الإيمان وفي محو السبب محو المسبب‏.‏

ولما كان الأنيباء معصومين من كل نقيصة، ومبرئين من كل دنية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه؛ قال‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏ أي كبير ولا صغير أصلاً‏.‏ وهذا الحرف- لكونه في سياق طعنهم في القرآن الذي هو أعظم الآيات- وقع التعبير فيه أبلغ مما في آل عمران الذي هو أبلغ مما سبق عليه، لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقاً وصفة راسخة، بخلاف ما مضى، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض؛ ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏وقولهم قلوبنا غلف‏}‏ أي لا ذنب لنا لأن قلوبنا خلقت من أصل الفهم بعيدةً عن فهم مثل ما يقول الأنبياء، لكونها في أغشية، فهي شديدة الصلابة، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم، ويشهدون له بالرسالة وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفون بأشهر صفاته، ويترقبون إتبانه، لا جرم رد الله عليهم بقوله عطفاً على ما تقديره‏:‏ وقد كذبوا لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان، فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفاً‏:‏ ‏{‏بل طبع الله‏}‏ أي الذي له معاقد العز ومجامع العظمة ‏{‏عليها‏}‏ طبعاً عارضاً ‏{‏بكفرهم‏}‏ بل إنه خلقها أولاً على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقض- عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وترك ما تدعو إليه عقولهم، طبع سبحانه وتعالى عليها‏.‏

فجعلها قاسية محجوبة عن رحمته، ولذا سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنون‏}‏ أي يجددون الإيمان في وقت من الأوقات الآتية، ويجوز أن يتعلق بما تقديره تتمة لكلامهم‏:‏ طبع الله عليها فهي لا تعي، وتكون «بل» استدراكاً للطبع بالكفر وحده، لأنه ربما انضم إليه، وأن يكون أضرب عن قولهم‏:‏ إنها في غلف، لكون ما في الغلاف قد يكون مهيئاً لإخراجه من الغلاف إلى الطبع الذي من شأنه الدوام ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ من الإيمان بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً كوجه النهار ويكفروا في غيره، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، أو إلا إناساً قليلاً منهم- كما كان أسلافهم يؤمنون بما يأتي به موسى عليه الصلاة والسلام من الآيات، ثم لم يكن بأسرع من كفرهم وتعنتهم بطلب آية أخرى كما هو مذكور في توراتهم التي بين أظهرهم، ونقلت كثيراً منه في هذا الكتاب، فقامت الحجة عليهم بأنهم يفرقون بين قدرتهم على الإيمان وقدرتهم على الطيران‏.‏